فصل: تفسير الآيات (104- 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (96- 97):

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}
يقول الحق جل جلاله:: {إن الذين حقتْ} أي: ثبتت {عليهم كلمة ربك} بأنهم لا يؤمنون، أو بأنهم مخلدون في العذاب {لا يؤمنون} أبداً؛ إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه، {ولو جاءتهم كلُّ آيةٍ} وعاينوها فإن السبب الأصلي لإيمانهم هو تعلق إرادته تعالى، وقد أرادَ خلافه، فلا يؤمنوا {حتى يَروُا العذابَ الأليم} وحينئذٍ لا ينفعهم، كما لم ينفع فرعون، وبالله التوفيق.
الإشارة: من انتكبه التوفيق لا يصدق بأهل التحقيق، ولو رأى منهم ألف كرامة، فلا تنفك عنه الشكوك والأوهام؛ حتى يفضي إلى شرب كأس الحِمام، فيلقى الله بقلب سقيم، وربما مات على الشك، فيلحقه العذاب الأليم، عائذاً بالله من ذلك.

.تفسير الآية رقم (98):

{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)}
قلت: {فلولا}: تحضيضية، و{إلا قوم يونس}: استثناء منقطع، ويجوز الاتصال؛ فيكون الاستثناء من معنى النفي الذي تضمَّنَهُ حرف التحضيض؛ لأن المراد بالقُرى: أهلها، كأنه قال: ما آمن أهل قرية من القرى الماضية فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، ويؤيده قراءةُ الرفع. و{يونس}: عجمي مثلث النون.
يقول الحق جل جلاله: {فلولا كانت} هلاَّ وُجدت: {قريةٌ} من القرى التي أهلكناها {آمنتْ} قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر الإيمان إلى نزوله كما فعل فرعون، {فَنَفَعَها} حينئذٍ {إيمانُها} بأن يقبله الله منها؛ فيكشف عنها العذاب، {إِلا} لكن {قومَ يونسَ لما آمنوا كشفنا عنهم عذابَ الخزي في الحياة الدنيا}، فرفعنا عنهم العذاب حين آمنوا بعد أن ظهرت مخايله، فنجوا {ومتعناهم إلى حين}: إلى تمام آجالهم.
رُوي أن يونس عليه السلام بُعث إلى أهل نينوى من الموصل، فكذبوه وأصروا على تكذيبه، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث، فلما دنا الموعد وأغامت السماء غيماً أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا، فطلبوا يونس فلم يجدوا فأيقنوا صدقه، فلبسوا المُسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم، ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها، فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والضجيج، وأخلصوا التوبة والإيمان، وتضرعوا إلى الله تعالى، فرحمهم وكشف العذاب عنهم، وكان يوم عاشوراء ويوم الجمعة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد أن يعتني بتربية إيمانه وتقوية إيقانه قبل فوات إبّانه، وهو انصرام أجله. وتربيته تكون بصحبة أهل اليقين، فإن لم يعثر بهم فبمطالعة كتبهم، والوقوف على أخبارهم ومناقبهم، مع دوام التفكر والاعتبار، والإكثار من الطاعة والخضوع والافتقار، والتمسك بالذل والانكسار، قال تعالى في بعض الأخبار: «أنا عند المنكسرة قلوبُهم من أَجلِي» وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (99- 100):

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)}
يقول الحق جل جلاله: {ولو شاء ربُّك} هداية الخلق كلهم {لآمن من في الأرض كلُّهُم جميعاً} بحيث لا يتخلف عنه أحد، لكن حكمته اقتضت وجود الخلاف، فمن رام اتفاقهم على الإيمان فقد رام المحال، ولذلك قال: {أفأنت تُكرهُ الناسَ} بالقهر على ما لم يشأ الله منهم {حتى يكونوا مؤمنين} كلهم.
قال البيضاوي: وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء، وإيلاؤها حرف الاستفهام الإنكاري، وتقديم الضمير على الفعل، للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه فضلاً عن الحث والتحريض عليه، إذ روي أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على إيمان قومه، شديد الاهتمام به، فنزلت، ولذلك قرره بقولة: {وما كان لنفسٍ أن تُؤمن إلا بإذن الله}؛ بمشيئته وألطافه وتوفيقه؛ فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله تعالى. {ويجعلُ الرِّجْسَ}: العذاب أو الخذلان فإنه سببه {على الذين لا يعقلون}: لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات، أو لا يعقلون دلائل القرآن وأحكامه؛ لِمَا على قلوبهم من الطبع، ويؤيده الأول قوله: {قل انظروا...} إلخ. اهـ.
الإشارة: في الآية تسلية لأهل التذكير حين يرون الناس لم ينفع فيهم تذكيرهم، وفيها تأديب لمن حرص على هداية الناس كلهم، أو يتمنى أن يكونوا كلهم خصوصاً، فإن هذا خلاف حكمته تعالى. قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] فالداعون إلى الله لا يكونون حُرصاً على الناس أبداً، بل يدعون إلى الله، ويذكرون بالله، وينظرون ما يفعل الله اقتداء بنبي الله، بعد أن علمه الله كيف يكون مع عباد الله، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (101- 103):

{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}
قلت: {ماذا} إن كانت استفهامية علقت {انظروا} عن العمل، وإن كانت موصولة فمفعول به، و{ما تغني الآيات}: يحتمل الاستفهام في محل نصب بتُغني، أو النفي. {ثم ننجي} معطوف على محذوف دل عليه: {إلا مثل أيام} أي: فكانت عادتنا معهم أن نهلك المكذبين، ثم ننجي رسلنا ومن آمن معهم، و{كذلك} مصدر معمول لننجي، و{حقاً} اعتراض بينهما، وهو مصدر لفعل محذوف، أي: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين يحق ذلك حقاً، وعلى هذا يوقف على: {الذين آمنوا}، ثم يُبْتدأ بقوله: {كذلك حقاً...} الخ. وقيل: خبر عن {الذين آمنوا} أي: والذين آمنوا مثلهم في الإنجاء، وهو ضعيف.
يقول الحق جل جلاله: {قل} للمشركين الذين طلبوا منك الآية: {انظروا ماذا في السماوات والأرضِِ} من الآيات والعِبَر، وعجائب الصنع ليدلكم على وحدانية الله تعالى، وكمال قدرته، ثم بيَّن أن الآيات لا تفيد من سبق عليه الشقاء، فقال: {وما تُغني الآياتُ والنُّذُرُ عن قوم لا يؤمنون} في علم الله وحُكمه، ثم هددهم بالهلاك فقال: {هل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} أي: مثل وقائعهم ونزول العذاب بهم؛ إذ لا يستحق غيره، فهو من قولهم: أيام العرب، لوقائعها.
{قل} لهم: {فانتظروا} هلاككم {إني معكم من المنتظِرِين} لذلك، أو فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم، {ثم نُنَجِّي رُسُلَنا} أي: عادتنا أن ننجي رسلنا {والذين آمنوا} معهم من ذلك الهلاك، {كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين} من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نُهلك المجرمين؛ حقاً واجباً علينا كما هي عادتنا مع من تحبب إلينا بالإيمان والطاعة.
الإشارة: أمر الحق جل جلاله أهل النظر والاستبصار بأن ينظروا ماذا في السماوات والأرض من الأسرار والأنوار، أمرهم أن يشاهدوا أسرار الذات وأنوار الصفات، دون الوقوف مع الأجرام الحسِّيات، أمرهم أن ينظروا المعاني خلف رقة الأواني، لا أن يقفوا مع الأواني، وإليه أشار ابن الفارض في خمريته، حيث قال:
ولُطفُ الأَواني في الحقيقة تَابعٌ ** لِلُطْفِ المَعَانِي والمَعَانِي بِها تَسْمُو

فالأكوان كلها أواني حاملة للطف المعاني، وأصل الأواني، تحسست وتكثفت فمن لطَّف الأواني وذوّبها بفكرته رجعت معاني، واتصلت المعاني بالمعاني، وغابت حينئذٍ الأواني، ولا يعرف هذا إلا من صحب أهل المعاني، وهم أهل الفناء والبقاء، ومن لم يصحبهم فحسبه الوقوف مع الأجرام الحسية، ويستعمل فكرة التصديق والإيمان، وهي عبادة التفكر والاعتبار والأولى فكرة أهل الشهود والاستبصار، وفي أمثالهم قال الشاعر:
هُم الرِّجالُ وغَبْنٌ أن يُقال لِمَن ** لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَانِي وَصْفِهِم رَجُلُ

وقد ذكر في الحِكَم هذه الإشارة فقال «أباح لك أن تنظر ما في المُكَوِّنات، وما أباح لك أن تَقِفَ مع ذوات المكونات، {قل انظروا ماذا في السماوات} فتح لك باب الأفهام، ولم يقل: انظروا السماوات؛ لئلا يدلك على وجود الأجرام».
ومن سبق له في العلم القديم الخذلان لا يخرج عن دائرة الأكوان، فلا يؤمن بوجود أهل الشهود والعيان، فما ينتظر مثل هذا إلا ما نزل بأمثالهِ، من هجوم الحِِمام قبل خروجه من سجن الأجرام، فإنه لا ينجو من سجن الأكوان إلا من صحب أهل العرفان، الذين أفضوا إلى فضاء الشهود والعيان وقليل ما هم.

.تفسير الآيات (104- 107):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}
قلت: {وأن اقم}: عطف على {أن أكون} وإن كان بصيغة الأمر؛ لأنَّ الغرض وصل {أن} بما يتضمن معنى المصدر يدل معه عليه، وصِيغ الأفعال كلها كذلك، سواء الخبر منها والطلب، والمعنى، وأمرت بالإيمان والاستقامة.
يقول الحق جل جلاله: {قلْ} يا محمد لأهل مكة أو لجميع الناس: {يا أيها الناسُ إن كنتم في شكٍ من ديني}؛ بأن شككتم في صحته حتى عبدتم غير الله، {فلا أعبدُ الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبدُ الله الذي يتوفاكم} فهذا خلاصة ديني اعتقاداً وعملاً، فاعرضوها على العقل السليم، وانظروا فيها بعين الإنصاف، لتعلموا صحتها، وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم، الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفي بالذكر لأنه أليق بالتهديد، انظر البيضاوي. {وأمرت أن أكون من المؤمنين} بالله وحده، الذي دل عليه العقل ونطق به الوحي.
{وأنْ أقِمْ وجهَكَ للدين حنيفاً}؛ مائلاً عن الأديان الفاسدة، أي: أمرت بالاستقامة بذاتي كلها في الدين والتوغل فيه، بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، أو: أن أقيم وجهي في الصلاة باستقبال القبلة. وقيل لي: {ولا نكوننَّ من المشركين} بالله في شيء، {ولا تَدْعُ من دون الله ما لا ينفعكُ ولا يضرُّكَ} بنفسه ولا بدَعْوَته، {فإن فعلتَ} ودعَوْتَهُ {فإنك إذاً من الظالمين}، وهو تنفير وتحذير للغير من الميل إليه.
ثم بيَّن من يستحق العبادة والدعاء، وهو الله تعالى فقال: {وإن يمسسك الله} أي: يصيبك {بضر فلا كاشف له}: لا رافع له {إلا هُو} أي: الله، {وإن يُردكَ بخيرٍ فلا رادَّ}: لا دافع {لفضله} الذي أرادك له.
قال البيضاوي: ولعله ذكر الإرادة مع الخير، والمس مع الضر، مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده. اهـ.
{يصيب به} بذلك الخير {من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}، فتعرّضوا لخيره بالتضرع والسؤال، ولا يمنعكم من ذلك ما اقترفتم من العصيان والزلل، فإنه غفور رحيم.
الإشارة: ينبغي لمن تمسك بطريق الخصوص، وانقطع بكليته إلى مولاه، أن يقول لمن خالفه في ذلك: إن كنتم في شك من ديني من طريقي فلا أعبدُ ما تعبدون من دون الله، من متابعة الهوى والحرص على الدنيا، ولكن أعبدُ الله الذي يتوفاكم، وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأن اقيم وجهي للدين حنيفاً مائلاً عن دينكم ودنياكم، كما قال القائل:
تَرَكتُ للِنَّاسِ دُنْياهُمْ ودِينَهم ** شُغْلاً بِذِكرِكَ يا دِيني ودُنيَائِي

قال آخر:
تَرَكتُ لِلنَّاس مَا تَهوَى نُفُوسُهُم ** مِن حُبِّ دُنيَا وَمِن عِزٍّ وَمِن جَاهِ

كَذاكَ تَرْكُ المَقَامَاتِ هُنَا وهُنَا ** والقَصْدُ غَيْبَتُنا عَمَّا سِوَى اللَّهِ

{ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك}، وهو ما سوى الله، فليس بيد أحد ضر، ولا نفع، ولا جلب ولا دفع، قال في الحكم: (لا ترفعنَّ إلى غيره حاجة هو مُوردها عليك، فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعا؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه؛ فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعاً؟!).
قال بعضهم: من اعتمد على غير الله فهو في غرور؛ لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، عطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. اهـ.
وقال وهب بن منبّه: أوحى الله إلى داود عليه السلام: «يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يده، وأسخطتُّ الأرض من تحته ولا أُبالي في أي وادٍ هلك». اهـ.
وقال بعضهم: قرأت في بعض الكتب: أن الله عز وجل يقول: «وعزتي وجلالي، وجودي وكرمي، وارتفاعي فوق عرشي في عُلو مكاني، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة بين الناس، ولأنحينَّه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمِّل غيري في النوائب، والشدائدُ بيدي، وأنا الحي، ويُرجى غيري ويقرع بالكفر باب غيري، وبيدي مفاتح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتحوح لمن دعاني، ومن ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به دونها؟ ومن ذا الذي رجاني بعظيم جرمه فقطعت رجاءه مني؟ ومن ذا الذي قرع بابي فلم أفتح له؟ جَعلت آمال خلقي بيني وبينهم متصلة، فقطعت بغيري، وجعلت رجاءهم مدخُوراً لهم عندي، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي بمن لا يملُّون تسبيحي من ملائكتي، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقَتْه نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري؟ فما لي أراه بآماله مُعرضاً عني؟ وما لي أراه لاهياً إلى سواي، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته منه فلم يسألني رده. وسأل غيري، أفتراني أبداً بالعطية قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني خلقي؟ أليس الدنيا والآخرة لي؟ أوَليس الجود والكرم لي؟ أوَليس أنا محل الآمال؟ فمن ذا الذي يقطعها دوني؟ وما عسى أن يؤمل المؤملون لو قُلت لأهل سمواتي وأهل أرضي: أمِّلوني، ثم أعطيتُ كل واحد منهم من الفكر مثل ما أعطيت الجميع، ما انتقص ذلك من ملكي عضو ذرَّة، وكيف ينقص ملك كامل أنا فيه؟. فيا بؤس القانطين من رحمتي، ويا بؤسَ من عصاني ولم يراقبني، وثَبَ على محارمي ولم يَسْتَحِ منٍّي».